رواية «دفاتر القرباط»: هموم المجتمع والعشق المحرّم

2024-05-04

مروان عبد الرزاق

الراوي هو شاب «لم تكتمل رجولته» حسب تعبير أمه التي تبسمل وتحوقل والتي تبحث عن حل لزوجها عند المشايخ، الذي أصبح رجلاً كهلاً يهتم بالسلاحف والعناكب والبغال، وتريده أن يعود شاباً وسيماً كما كان من قبل. وكانوا يعيشون في «العنابية» وهي قرية عربية إلى جانب منطقة عفرين ذات الأغلبية الكردية. والعنابية من «عناب» مؤسس القرية، الذي دفن في مزار في القرية تحت شجرة الزيزفون الضخمة. وجدتي هي سنديانة العنابية التي تحفظ أسرار القرية، وصوتها الهادئ، وهي مجللة بالرهبة، وتفهم لغة المطر وهو يخبرها عن أحوال العنابيين الغائبين، وتفوح منها رائحة القرفة التي تتبارك بها عائشة ذات النهدين الصارخين، وكنت أنا حارسها وخادمها الصغير والطفل المدلل عندها. وأخواتي فاطمة ، وعائشة ، وزليخة الصغيرة الخائفة التي لم تكتمل أنوثتها بعد. وهادي العنابي الذي يراقب الغرباء، وأضاع خريطة الذهب المدفون، ويريدني أن أرسمها من جديد، كي نجد فيها خاتم الملك وعصا الخليفة المطرزة بالذهب، وفشلت في ذلك لمرات عديدة، وفي رحلته إلى مصر، حيث استقبله الراهب جرجس وماريا القبطية الجميلة، وكان يصلي في الأزهر، وقال له الشيخ: العشق عبادة، وفي الكنيسة أيضاً بارك الراهب زواجنا، وماريا وافقت على الزواج منه، رغم اختلاف الأديان، لكنها لا تستطيع ترك الإسكندرية، وهو ابن العنابية. وودعته على رصيف الإسكندرية. وعاد مهزوماً يبحث عن الخريطة، حيث داهمه الجنون، وبدأ يأكل أعشاب البراري، والعنابية ضائعة وسط البراري. وأحمد الرسام الأنيق صاحب الألوان المتعددة، الذي يريد أن يقتل أباه لأن أخته بدرية توفيت لأنه لم يأخذها للمشفى؛ فسرق خزنة أبيه وعمل لها قبراً من المرمر.

٭ ٭ ٭

و«القرباط» الذين جاؤوا بالأصل من جبال قرباط في أوروبا الشرقية، ينتقلون من مدينة إلى أخرى وفق قانون الترحال لذلك تمت تسميتهم بـ«النَوَر» بدلا من «النور» لجمال بناتهم، وفي الصيف وصلوا مع خيمهم وحميرهم إلى العنابية. وبدأت رحلة العشق التي لم تنته بين «الخال ونشمة» ملكة القرباط. النساء القرباطيات بصدور مفتوحة وأقمشة متسخة يقايضون القمح والشعير بالصحون والأشياء الناعمة من أمشاط وأزرار، وكانت نشمة ووضحة تحملان صوراً جنسية للرجال تعرضانها أمام البنات في غرفة عائشة، ونشمة تتغنج في مشيتها المثيرة، وتهز ردفيها، وهي تطأ الأرض كدجاجة حبشية.

والخال ابو الهايم العاشق الولهان، وكان فاتناً بأثوابه الأنيقة والنظيفة يرقص بين النساء ويغامزهن فتحمر وجوههن، وكان يعشق نشمة ملكة القرباط المتربعة على كرسي عال كأنه العرش. وأقسم بانه سيصبح قرباطياً حتى يتزوج نشمة. وقالت له أمي ستبهدلنا، كيف لعنابي أن يتزوج قرباطية؟ وكان دائماً مع نشمة صاحبة العينين الواسعتين. وفي عرس الغزاوية شاعت إشاعة حول جنسية السهرة فساءت العلاقة مع القرباط ورحلوا من العنابية.

وحين رحلوا أصبح أبو الهايم كالمجنون، جلس على حجر وبكى. ثم حمل حقيبته التنكية ورحل ولا يعرف سوى الشرق الذي تنبعث منه رائحة أثواب نشمة المهفهفة. وقالت جدتي إنه عاشق وسيبحث عن معشوقته وعشقه سيقتله. وكان رحيل الخال من العنابية أسطورياً، وكأنهم ظنوا أنه ولي من أولياء الله.

وإحدى حبكات الرواية حول عشق الخال لنشمة ورفضهم الزواج من خارج القرباط وإقامة علاقة جنسية معه هي حبكة جميلة تنقلنا إلى العقلية الضيقة للقرباط والعنابيين. الذين يرفضون الزواج بين الأعراق المتعددة، وهناك تزوجت من زعيم القرباط، لكن هذه العقلية لم تمنع نمو العشق بين الخال ونشمة، حيث استمر العشق بينهما، وكانت تقول له: الله كن رفيق دربي، وأنا أحبك ولن أموت إلا في حضنك، وكل أسبوع تأتي إلى الخال، وكالنسيم يحيطها بذراعيه وسينجب ولداً يسميه عناب ويصبح ملكا للقرباط. وتعيش معه يوماً جنسياً كاملاً. فالعشق حالة إنسانية تتجاوز كل الأعراق والديانات، وهو مغارة مظلمة لا تعرف متى تدخلها، ولا متى ستخرج منها.

لكن هذه الحبكة غير كافية لمعرفة القرباط. فالروائي لم يقدم للقارئ أشياء مهمة عن القرباط، كما يوحي بذلك العنوان والدفاتر المذكورة. مثلاً، لم يقدم للقارئ أصولهم، علاقاتهم الداخلية، إذ كيف الملك العجوز للقرباط ليس قرباطياً إنما عنابي. وأيضاً طعامهم، وزواجهم، ولغتهم الدومرية، وثقافتهم العامة، ورفضهم الاندماج، وديانتهم، وشيء عن أسرارهم، إلخ حتى نتلمس معنى القرباط، الذي نال في الثقافة العالمية جدلاً واسعاً حول منشئهم من الهند أو غيرها، ودياناتهم وعاداتهم. فالرواية لم تقدم المسكوت عنه عند القرباط وثقافتهم.

٭ ٭ ٭

وأهالي العنابية وهم عرب يحبون عفرين والأكراد عموماً. فهم يبيعون لبنهم وماشيتهم والعنب والتين في عفرين ويتسوقون حاجياتهم، خاصة يوم البازار، حيث تجتمع فيه القوميات المتعددة من عرب وكرد وآشوريين، وديانات تضم الأديان السماوية مثل، المسيحيين والإسلام وبعض اليهود واليزيدين، إضافة إلى اللادينيين، وكل هؤلاء ذات الأغلبية الكردية يعيشون مع بعض بوئام ومحبة دون أي مشاكل. وكان الطلاب في العنابية يستكملون دراستهم الإعدادية والثانوية في عفرين، حيث ينزلون من جبل قيبار اليزيدي إلى عفرين.

وتدافع الرواية عن حقوق الإنسان، وأن الأكراد ليسوا خونة، حيث جاء أستاذ المدرسة وقال لنا: أنتم بهائم وأولاد قحبة، وأنتم خونة إن لم تكونوا حزبيين وتشاركون في احتفالات الثورة، ومع الاحتفال بعيد الثورة جمع مدير الناحية أهالي عفرين وهو يخطب فيهم، وصفقنا وهتفنا له، إلا أن ذلك لم يكن كافياً، لوصف مدير المدرسة لنا بأننا معادين للدولة، وعمل الأستاذ على تسليم بعض الطلاب للأجهزة الأمنية. وفي النهاية وزعوا الجوائز على الطلاب الكسالى وهم أولاد المسؤولين. وكذلك ابن عمي صاحب المواخير الذي قال: من ليس مع الحكومة فهو ضد الوطن وضد الأمة. ورفضته جدتي وجرائمه التي لن تغتفر، فهو مرشح للانتخابات في البرلمان عن الحكومات الفاسدة. وهو ضد الوطن والعنابية، وقالت أمي: وهل البرلمان رتبة عسكرية مثل مدير المنطقة! ودخل في قوائم الحكومة ونجح ممثلاً للعمال والفلاحين مع الآغوات وملاك الأراضي بعد ان ملأ الموظفون الصندوق بأصوات العنابيين مع أمواتهم. إنها مسخرة الانتخابات السائدة منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن.

كذلك تقف الرواية ضد جرائم الشرف. حيث إن عائشة تعلقت بمرافق ابن العم الذي قرص فخذها، ثم في بيت عمي استسلمت بجسدها له، وفض بكارتها، ووعدها بالزواج منها. ومع الأيام توضح حمل عائشة؛ وحملت الأم سكيناً وقدمته للراوي كي يذبح أخته لإعادة الشرف لذي لطخته للعائلة والعنابية، لكنه رفض ذلك ولذلك وصفته بأن رجولته لم تكتمل، ولم تجعله سيد البيت بعد وفاة أبيه. وخصصت إسطبل البغلين لتلد فيه عائشة، وأصبحت مقطوعة عن العالم الخارجي. وكان الطفل جميلاً، ومع اشتداد حصار الأم رحل الراوي الأخ مع عائشة إلى عفرين بلاد الخضرة. والهواء النقي والزيتون.. لكن الروائي يصف الطفل بالأعمى. مع إنه ذو عينيين جميلتين، لأنه لم يرَ النور منذ ولادته وحتى سفره وهو قابع في إسطبل البغال. وهكذا لا يفي المرافق بوعود عودته، وكذلك ابن العم لم يدافع عن الفلاحين باعتباره عضواً في مجلس الشعب ولم يدخل عينتاب بعد الانتخابات إطلاقاً.

٭ ٭ ٭

والحياة ليست حقيقة، إنما الحقيقة الوحيدة هي الموت.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي