استعارات المساءلة في دراسة تأريخ الإبادات

2024-04-19

محمد خضير سلطان

بغض النظر عن مناقشة جدل اسم الشاعر الذي ينسب له هذا البيت من القصيدة الذائعة الصيت، «لما سلكنا الدرب كنّا نعلم… أن المشانق للعقيدة سلم» والشاعر الآخر الذي صرخ بمزحة سوداء بوجه جلاديه «لنا الأعناق ولكم الأعواد».

إن الأبيات التي كان أحدها (الأول) يتردد بأفراط جنوني، ليعكس الهوس الدموي لدى مجموعات واسعة من جماهير ونخب الحقبة الخمسينية في القرن الماضي، إذ تمثل وقتها الحماسة الثورية المنضوية تحت تبرير الجريمة السياسية وإيجاد الذرائع في اتجاه استشراعها وجعلها منظومة عادلة، تعمّي البصيرة الحقوقية والإنسانية عن الفظاعات المرتكبة في القتل الجماعي والترويع والتهجير وتعليق الجثث والتمثيل بها ورميها في الأنهار، أو تغييبها في غياهب الأهوار، وغير ذلك من سلوكيات لم تنشأ في بلادنا فقط، بل تتكرر في تاريخ الإبادات في العصر الحديث والقديم، ولا عجب أن تعد آنذاك جزءاً من بداهة العمل السياسي المتوافق مع الذات والمشاعر المحلية والإنسانية، وحتى وقت قريب لم تجر مساءلتها لدينا على نحو ما داخل الأنماط الثقافية، سواء من قبيل الأدبيات السياسية والفنون واللغة أو السرديات الشعبية إلا على نحو ضيق.

لقد عالج على سبيل المثال، الباحث فالح مهدي موضوعة القسوة العراقية في الكشف عن آليات الزمر المتوحشة للقتل طوال العقود الماضية، وطبيعة صراعها الثابت مع ضحاياها في حلبة محددة الاتجاه والزوايا ومتعددة الأبعاد والآفاق عبر سلسلة من الأسباب الدينية والعرقية والجغرافية المتشابكة، التي تنشد توصيفا دقيقاً لقاع «الانحطاطية» السياسية ومحاولة استكناه مفهومه الموضوعي بغية إيقافه وعزله في الجغرافية المصّدرة للعنف والاستعدادات الذاتية لارتكابه في المجتمع كله، فهذا القاع ليس من صنعنا وعلينا اختراع ردمه بالتدريج والقضاء عليه.

وخلص الباحث مهدي إلى الايحاء بفكرة البرية والافتراس في ما سمّاه «العراق المعلول» وسعى الى ما سميته “التلويح منهجيا” بان القسوة العراقية ليست تحصيلاً وتراكماً لسلوك أفرادها فقط، بل هي عوامل موضوعية متضافرة تصنع الظاهرة بحيث يعد أفرادها جزءاً منها، سواء كانوا مجرمين أو ضحايا، للمجرم والضحية صانع واحد مشترك لكنه ليس قدراً ابدياً ملازماً لثقافتنا.

افتتح الباحث مشروعه الفكري الأثنوغرافي في دراسة ظاهرة العنف بالتأكيد على أن عامل الدونة والصحراء الغربية وموجتها على المدينة أو شبه المدينة صانعة للقسوة العراقية في السلطة إبان الستينيات، هذا الطرح لم يكن جديداً لدى طروحات الباحثين العراقيين، غير أن الجديد هو عملية التركيز في مجال الباحث فالح مهدي بما يعد مقدمة أولية لدراسة ظاهرة العنف السلطوي من خلال عواملها الموضوعية والتاريخية والبيئية، التي تجعل جميع شخوصها جزءاً منها بوصفهم موجات بدوية على الحواضر في سياق صدمة التحديث، وما نجمت عنه من حيثيات وتشكل وتصاعد داخل الموجات، سواء أكانوا مجرمين أم ضحايا عبر وصف الباحث في موجات العثمنة والبعثنة وغير ذلك كثير.

من جانب آخر، بلغت جرأة الباحث فالح مهدي حداً بعيداً، في سياق الكامن من عدته التحليلية، عند إيراده معلومة عن نماذج وكتابات او الهجوم على بعض القوى السياسية اليسارية والإسلامية في الشارع العراقي التي تقف على الضد والصراع مع قوى أخرى شكّلت ظاهرة العنف في موجات العثمنة والبعثنة والأسلمة، التي أفضى استقطابها الكبير عبر الحقب إلى اندماج العنف السلطوي والمجتمعي الآن في خلطة إيحائية تجعل الجميع في استعاضة عن بعضهم، وفي المحصلة فإنّ مسمّى الضحايا أحيانا من نسيج المجرمين والعكس صحيح.

إذن كيف يكون بوسعنا مساءلة الظاهرة الإبادية في بلادنا، ليس بوصفها قتلاً جماعياً فقط، بل حسب تعريف لمكن على أساس عدها GENOSCIDE عرقي ومجتمعي، وإذا كان لمكن، يربط حسب رؤيته الإبادة بالاستعمار ويعد الأولى إطاراً نفهم به الاستعمار الأوروبي لأنحاء العالم، فإن الدول المستقلة في المحصلة بعد الحقبة الاستعمارية، وتسمى أيضاً ما بعد الكولونيالية، تناوشت هذا الإطار من الفهم مستأنفة العمل الإبادي على نحو جديد، أو نستطيع القول بأن تشكل الإطار الثاني من الإبادة الجماعية هو الدائرة الثانية من تعريف لمكن للتاريخ الاستعماري بوصفه تاريخاً للإبادات.

وبذلك يغدو استقلال الأوطان ما هو إلا دخول طور جديد من تحول المستقل الضحية إلى جلاد أو مستعمر محلي، يقول جون دوكر، إن لمكن «طور منهجية بارعة تسمح في إمكانية القيام بتحليل متعدد الجوانب لتاريخ الاستعمار الاستيطاني في علاقته بالإبادة الجماعية، ويشير إلى عدم استقرار العلاقة بين الجلاد والضحية على مر التاريخ، ويذهب إلى ان هناك أمثلة تبرهن على تحول ضحايا الإبادة إلى مرتكبي إبادة، وهكذا يُصبح ضحية الأمس جلاد اليوم».

ونعود إلى الأبيات الشعرية بوصفها متوالية يستعيد بها الضحايا دورهم من جديد في محاكاة من نوع ما، إلى تمثيل دور الجلاد لتصبح العملية أشبه بدولاب على حامل التاريخ يصعد تارة بالأعواد وينزل تارة أخرى بالأعناق، ثم ما يلبث في حقبة تالية أن يظهر العكس في عملية استعاضية ومتكافئة بين الجلاد والضحية، كما إن الذي يسلك الدرب ويعلم مسالك ومراقي المشانق للعقيدة التي يؤمن بها، لا يعلم بعد حين بأنه ينصب المشانق نفسها لعقيدة أخرى، في ما يواصل من يقع تحت وطأته المراقي نفسه من جديد.

لا بد من التمسك في ما قاله جون دوكر عن لمكن، بأن الاستعمار الاستيطاني هو أصل الشرور، لكن دوكر يذهب إلى أبعد من ذلك بما يسميه الشرط الإنساني كما يقول عن كتابه أصول العنف «أناقش في هذا الكتاب العنف والإبادة ومساءلة العنف والإبادة بوصفهما من مكونات الشرط الإنساني منذ العصور السحيقة».

ثمة منهجية جديدة، تقوم على المساءلة وهذه المساءلة تقوم على أساس البحث في تداعيات السرود الدينية والتاريخية والثقافية ووصفهما بدقة، ولن يكتفي دوكر بذلك إنما يؤسس منهجيته خارج منظومات الحداثة التي يرى بأنها « لا تتوغل عميقا في التاريخ، وتسعى وراء التفسيرات التي تهتم بالطبيعة المفترضة للتنوير التي تركز على الحداثة كما لو كانت عصراً منغلقاً ومكتفياً بذاته».

وهكذا فإن المساءلة هي «وجهة النظر التي تحدد الحاضر في قراءة وقائع الماضي انطلاقاً من خطر يهددنا جميعاً» ويمكن اختصارها في المخطط الآتي:

اللحظة الحاضرة، تمثل التهديد والشعور بالخطر ومركز الثقل السردي التاريخي والأسطوري والديني.

التعبير عن السرديات الكبرى، توكيداً أو سرداً مضاداً، خارج منظومة التنوير والحداثة بوصفهما عالماً مغلقاً. القلق والمساءلة ومن ثم البحث عن السلام من خلال إعادة تفكيك مكونات الشرط الإنساني الدافع للشرور.

نستخلص على مستوى ثقافتنا المحلية، بأن مشروع الباحث فالح مهدي في القسوة العراقية، يقع ضمنا في سياق القلق والمساءلة لدى دوكر، وهو جزء من دراسات السلام في ما بعد الحداثة التي لا تعبر الفاعل الجنائي الإنساني وإنما تضيف إليه عناصر جديدة مشتركة من العناصر المادية المحيطة مثل بحيرة الجبل عند وولفغانغ ديتريخ التي تحتوي على الكائنات الحية المتنازعة افتراساً وموتاً في فضائها الحيوي والعوالم المادية من هدوء الماء وتوتر الأعماق، ويطرح ديتريخ مفهوم الشرط الإنساني كما هو لدى دوكر، وقاع السفالة الصحراوي لدى مهدي من خلال مفهوم الـDASEIN الهايدغري (نسبة الى مارتن هايدغر) الذي يحدد الكون الوجودي الخاص بالفرد مع محيطه الحيوي بما يجسد الوجود والكينونة.

إن ديتريخ لا يفصل بين الوجود والكينونة، الكائن الحيوي ومحيطه، العالمين المادي والحيوي لكنه، يقف في تساؤل عميق من أن» البحيرة الجبلية ليست سلمية بشكل موضوعي ولا في حد ذاتها، لكن صورتها يمكن أن تحفز شعور السلام في نفس الناظر إليها». ويمكن الاستنتاج بأن الاستعارة هي السبيل إلى إجلاء القلق والمساءلة في دراسات السلام فديتريخ ينشئ استعارته في البحيرة الجبلية الغامضة ودوكر في السرد والسرد التاريخي المضاد وفالح مهدي عبر المشروع الإثنوغرافي القائم على تشكيلات الجغرافية من الدونة إلى الاشكال شبه المدينية، والاستعارات الثلاث، تستعيد الجلاد الضامر في الضحية، وتمكّن التاريخ من تبويب جديد للوقائع والجغرافيا.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي