منارات برلين التي تنطفئ

2024-04-16

صبحي حديدي

في خريف 1743 كان فتى في الرابعة عشرة من العمر قد دخل إلى مدينة برلين عبر بوّابة روزنتالر تور، الوحيدة المخصصة لعبور اليهود (والمواشي!)، آتياً من بلدته ديساو؛ وكان حافياً، وقضى خمسة أيام سائراً على قدميه لبلوغ العاصمة البروسية، وحين سأله الحراس عن سبب مجيئه، أجاب ببساطة أنه راغب في الدراسة والتعلّم. يومذاك، جاء في سجلّ البوابة ما يلي، بالحرف: «اليوم دخلت 6 ثيران، 7 خنازير، ويهودي واحد».

هذا هو مفتتح كتاب «ويلات لا تنقضي: تاريخ اليهود في ألمانيا، 1743 ـ 1933»، الذي صدر بالإنكليزية سنة 2003 ضمن منشورات بيكادور، بتوقيع المؤرخ الإسرائيلي عاموس إيلون؛ الذي رحل سنة 2009 في توسكانا، منفاه الإيطالي الاختياري. وأمّا الفتى في الحكاية فقد كان موسى مندلسون (1729-1786)، فيلسوف الأنوار الأبرز في الفقه اليهودي، الذي سوف يُلقّب تارة بـ»سقراط ألمانيا»، وتارة أخرى بـ»موسى الثالث» الذي يلي النبيّ موسى والمتصوّف الفيلسوف موسى بن ميمون. الغرض من الافتتاح هو التالي، باختصار إيلون نفسه: حكاية يهود ألمانيا، من أيام مندلسون وحتى النازية، «انطوت على الوعد، ولكنها أيضاً كانت منكدة، متشابكة، ورهيبة تماماً في نهاية المطاف»؛ ولذلك فإنّ الكتاب «يرصد مصائر وأفكار عدد من الأشخاص المهمّين، العلمانيين غالباً، المتمتعين بجاذبية عالية عموماً، أيقونات، لم تكن مع ذلك تمثيلية الطابع»، حسب إيلون.

والمجلّد يستعرض عشرات الحكايات السعيدة، على أصعدة الأدب والفلسفة والعلوم، ثمّ المال والأعمال بصفة خاصة؛ فضلاً عن حكايات تعيسة، كثيرة، بدأت تتعاقب مع تصاعد الخطاب المعادي للسامية، والذي بلغ ذروته عند أدولف هتلر والرايخ الثالث. القارئ ذو الضمير الحيّ، أي ذاك الذي أفلح في التحرّر من أيّ وكلّ خلط بين العداء للسامية والعداء للصهيونية، لا يملك سوى التعاطف مع المآلات المأساوية التي انتهى إليها اليهود؛ مقارنة بمقدار الحبّ الذي لاح أنهم ظلوا يمحضونه لألمانيا، وللألمان. غير أنّ القارئ ذاته لا يملك رفاه استبعاد مقارنات واجبة بين ما عانته تلك الضحية اليهودية خلال عقود الجمر والحريق والهولوكوست، وما مارسه بعدئذ ــ ويمارسه على الدوام ــ أبناؤها وأحفادها اليوم، ولكن في فلسطين المحتلة.

ولعلّ المرء مخوّل باستعادة مجلّد إيلون، وحكاية مندلسون ذاتها، في هذه الأيام التي تشهد انحطاطاً فادحاً وفاضحاً، لا نموذج له ولا سابقة، في الخلط الألماني (على مستويات حكومية رسمية، ولدى قطاعات واسعة في المجتمع المدني) بين التعاطف مع اليهود وضحية الهولوكوست في المقام الأوّل من جهة؛ والمساندة العمياء العشوائية والغاشمة وشبه المطلقة لحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة من جهة ثانية. الموقف الرسمي الألماني بلغ شأو التطوّع للدفاع عن دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية وتجميل جرائم الحرب، ومواقف حفنة من هيئات ثقافية وفكرية وأكاديمية مستقلة مارست من أنساق الرقابة على تيارات مناصرة الحق الفلسطيني ما يليق بأعتى أنظمة الاستبداد.

وهكذا، بالأمس فقط، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية تحقيقاً مسهباً بعنوان «كانت برلين منارة للحرّية الفنية. غزّة بدّلت كل شيء»؛ تناول سجالات الفنانين من أربع رياح الأرض، حول ما يمكن/ لا يمكن أن يُقال بصدد دولة الاحتلال الإسرائيلي والحرب على القطاع. ولأنّ هذا المنبر لا يُعرف عنه استعداء القراء على جرائم الاحتلال، بل اشتُهر بالعكس تماماً، فإنّ الأمثلة التي يسوقها التحقيق حول مصادرة حريات التعبير والرأي الآخر المناصر للقضية الفلسطينية ومآسي أهل غزّة تشير في مقام أوّل، إلى أنّ السيل بلغ الزبى بتحرير «نيويورك تايمز» إزاء انحدار برلين/ المنارة إلى مخفر لمحاكم تفتيش الضمائر، وكتم الأصوات، وإخماد الحقائق الساطعة.

مقام ثانٍ، لا يصحّ البتة إغفاله، هو ذعر أنصار دولة الاحتلال وأصدقائها التاريخيين، كما يمثلهم منبر أمريكي عريق أقرب إلى مؤسسة عملاقة، من تشوّه صورة رُسمت للكيان الصهيوني على مدى عقود تأسيسه، احتُسبت مكوّناتها بدقة عالية (وتزييف فائق البراعة، بالطبع)؛ ورُوعي في الحساب أن يبدو الكيان نظيراً، أو حتى أرفع قليلاً، من نماذج الديمقراطيات الغربية كافة. وهذا على وجه التحديد، هو الذي يتكشف عن نقائض مريعة فظيعة، فلا يُفتضح في واشنطن أو لندن أو باريس أو أمستردام، فحسب؛ بل في الحاضرة البروسية العريقة ذاتها، عقر دار مندلسون الفتى، وحاضنة ائتلاق نجوم يهودية على شاكلة سيغموند فرويد وفرانز كافكا وألبرت إينشتاين…

جوائز سًحبت. مؤتمرات أُلغيت. مسرحيات أُزيلت عن خشبات مسارح. مقاطعات احتجاج مضادة من عشرات الفنانين. منحوتات بقيت حبيسة الصناديق لأنّ أصحابها تراجعوا عن عرضها احتجاجاً على سياسات الرقابة في هذا المتحف أو ذاك. والخلاصة الأبلغ تعبيراً عن هذه الحال هي التالية: هذه لم تعد برلين، العاصمة الثقافية الدولية؛ وهذا الانحطاط لا سابق له منذ العام 1989، يستخلص التحقيق.

أو ربما أبعد في الزمان من سنة سقوط الجدار، كمقياس لخرافة «نهاية التاريخ» المندثرة؛ وأعمق من حيث عواقب النخر في معمار الديمقراطية الألمانية ودولة القانون؛ وأقرب، في واحد من وجوه مآزق ألمانيا الأخلاقية والحقوقية، إلى منح مجرم حرب مثل بنيامين نتنياهو سلطة حراسة بوّابات المدينة.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي