«وفاة بائع متجول» وإرهاصات ما بعد الحداثة: ما بين المسرح الأمريكي والسينما الإيرانية

2023-02-09

من العرض الأمريكي وفاة بائع متجول (موقع عرض المسرحية)محمد عبد الرحيم *

كتب آرثر ميلر (1915 ــ 2005) مسرحيته «وفاة بائع متجول» عام 1949، جاعلاً بطلها (ويلي لومان) معبرا عن مأزق زمنه، كالحلم الأمريكي الوهمي الذي اعتنقه الكثيرون، لكنهم لم يدركوا خدعة هذا الحلم. بطل ميلر هو بطل تراجيدي كلاسيكي، يحاول المؤلف من خلاله أن يدين عصرا بأكمله، يقوم على الفساد والتفاهة.

العرض المسرحي والفيلم

إن كان البطل هنا والبناء المسرحي ككل ينتمي إلى السمات الكلاسيكية في الكتابة المسرحية، إلا أن تناولها تم من خلال وجهات نظر مختلفة، رؤية وبنية تنتمي إلى إطروحات وتيارات ما بعد الحداثة. فالعرض الأحدث على مسارح (برودواي) ـ منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022 ـ يقدم مسرحية ميلر من وجهة نظر (السود) في أمريكا. أداء.. Wendell pierce، Sharon Clarke وإخراج Miranda Cromwell. فالأمر هنا لم يقتصر على رؤية ميلر في الحلم الأمريكي، لكنه يتعدى إلى فكرة الحرية الفردية والخطر الذي يهددها من خلال الرجل الأسود، ولاسيما حادث (جورج فلويد) عام 2020، كاشفاً عن العنصرية المتأصلة في هذا المجتمع، رغم فكرة المساواة المزعومة. من جهة أخرى نجد عملاً، ومن خلال وسيط آخر هو السينما، يقدم وجهة النظر ذاتها في فيلم إيراني بعنوان «البائع» للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، والذي كتب له السيناريو أيضاً ـ إنتاج عام 2016 ـ هنا يستوحى فرهادي مسرحية «وفاة بائع متجول» وفي سرد ما بعد حداثي يخلط الواقع بالفعل المسرحي، ويصبح كل من البطلين ـ بطل الفيلم وبطل المسرحية ـ في مأزق وجودي وأخلاقي. فالبطل في الفيلم مدرس ومخرج مسرحي، يقوم بإخراج مسرحية ميلر، لكنه يتورط في بعض الأحداث التي تجعله لا يستطيع المقاومة، ويصبح أحد أداة وضحايا النظام الإيراني، حيث كل شيء ممكن أن يتم في الخفاء، فكرة الفساد الاجتماعي هي التي تعجّل بسقوط البطل، وتجعله يظهر على حقيقته، هشاً وفاشلاً، فلم يستطع الحفاظ على أكثر العلاقات الإنسانية خصوصية (رفيقته) وقبلها أفكاره ومعتقداته. من ناحية أخرى لم يعرض فرهادي النص المسرحي لميلر، لكنه استوحى الحالة، ومدى التشابهات بين مجتمع يدّعى التفوق ـ كما في حالة ميلر ـ وآخر يدّعي الفضيلة.

ميلر وإرهاصات ما بعد الحداثة

كل من العملين حاول الاستناد إلى النص المسرحي لميلر للكشف عن قضايا ومشكلات معاصرة، تمر بمجتمعين مختلفين فكراً وثقافة، خاصة أن الفيلم استوحى فقط الأفكار العامة للنص المسرحي وطبقها على مجتمعه، دون التقيّد بتفاصيل وأحداث، وبالتالي شخوص وأماكن النص المسرحي (شكل سردي ما بعد حداثي) بينما العرض الأمريكي الأحدث يبحث عن مفهوم الحرية الزائف الذي يتمثله المجتمع الأمريكي، خاصة في ظل العنصرية المتصاعدة منذ عهد دونالد ترامب (وجهة نظر ما بعد كولونيالية). فإلى أي مدى يمتلك النص الكلاسيكي إرهاصات ما بعد حداثية، حتى يمكن معالجته من هذه الزاوية أو تلك؟

العرض المسرحي وفاة بائع متجول

بداية يمكن أن يغطي مصطلح (ما بعد الكولونيالية) كل الثقافات التي تأثرت بالعملية الإمبريالية من لحظة الاستعمار وحتى يومنا الحالي. إلا أن اتجاهات ما بعد الاستعمار تعمل لتتحدى السرد المهيمن وتنتقده. وهو ما يجعلها ضمن تيارات ما بعد الحداثة، حيث نقد السرديات الكبرى. فتقوم نظرية ما بعد الاستعمار بوضع وتأسيس صوت للصامتين حتى اليوم داخل التاريخ والمجتمع، وتنشد حل التساؤلات المتضمنة والمُستبعدة وتشكل علاقات واضحة بين المعرفة والسياسات في سياق محدد لدراسة قضية التهميش وظروفها التاريخية. (إعادة التفكير في الحداثة.. نزعة ما بعد الاستعمار والخيال السوسيولوجي. جيرميندر ك بامبرا. المركز القومي للترجمة، القاهرة 2016)
كذلك تتناول ما بعد الكولونيالية ردود الأفعال إزاء الكولونيالية، وذلك في سياق لا يتحدد بالضرورة من خلال محددات زمنية، ويتمثل هذا السياق في المسرحيات والروايات والأفلام، التي تصبح جميعاً تعبيراً نصياً ثقافياً عن مقاومة الاستعمار، وغالباً ما تعمل النظرية لما بعد الكولونيالية على مستويين، فهي تحاول من جهة الإبانة عن حالة ما بعد الكولونيالية، ومن جهة أخرى إماطة اللثام عن أي بنيات أو مؤسسات باقية من القوة الكولونيالية. (الدراما ما بعد الكولونيالية. هيلين جيلبرت وجوان تومكينز، مركز اللغات والترجمة. أكاديمية الفنون. القاهرة)

لكن .. كيف يمكن معالجة هذا النص الكلاسيكي الآن؟

هنا يتعدى العرض المسرحي لمناقشة قضايا جديدة، أو بمعنى أدق قديمة وقد ظن البعض أنها انتهت، لكنها طفت على السطح مرّة أخرى، فتقدم هذه المعالجة الجديدة معرفة مجتمعية تمثل صراعاً درامياً لأسرة بائسة، وهنا تعود التفرقة العنصرية من جديد لتحتل المشهد، فعائلة (ويلي لومان) السوداء، يقابلها الرجل الأبيض، المتمثل في (صاحب العمل) ممثل الجيل الجديد الذي لا يحافظ على هدنة الماضي ـ علاقة أبيه وويلي لومان ـ إضافة إلى الجيران، وذلك بطريقة تتغافل المساواة بين البشر والتمييز بينهم على أساس اللون، ما طرح الكثير من الأسئلة حول العرق والتاريخ، وفق سياق تصاعد وتيرة العنف ضد السود في أمريكا، ولوقت طويل هناك تفرقة مُستترة داخل المجتمع الأمريكي، لكنها ظهرت على السطح، ولعل أهمها حادث مقتل جورج فلويد (1973 ــ 2020) على يد أحد رجال الشرطة، لتنتشر بعدها حركة احتجاجية طالت الولايات المتحدة بأكملها. ففكرة الكراهية والعنف ضد السود زادت بعد عودة الفكر العنصري مع دونالد ترامب، الذي كان يؤمن بتفوق الرجل الأبيض، والأمريكي الأبيض بشكل خاص. في هذا المناخ تم الاستناد إلى «وفاة بائع متجول» وتقديمها من خلال عائلة سوداء موهومة، ليس بتحقيق الثروة في بلد الفرص العادلة، كما كان الوهم وقت آرثر ميلر، لكن لتحقيق عدالة الوجود والتعايش. فـ(ويلي لومان) الأسود في العرض المسرحي يتمثل سادته البيض، ويحاول بدوره اقتناص الفرصة، حتى ينتمي إليهم ـ كما يتوهم ـ فيتمثل مجموعة القيم المنحرفة التي يتميز بها هنا الرجل الأبيض ـ لا رجال المال كما عند ميلر ـ بل يعمل على تعزيزها لدى ابنيه، وليصبح الرد الأمثل على موقف (ويلي) هو مواجهة كل ما كان يؤمن به ويحاول بثه وتوريثه لولديه. ولا أدل من ذلك إلا مشهد (ويلي) وهو ينحني لالتقاط القداحة التي سقطت أرضاً من (هوارد) رئيسه في العمل، حيث نرى الكثير من الضعف، ليتعارض الفعل بكل ما نصح به ويلي ابنه (بيف) بعدم إظهار أي شعور بالدونية أمام الآخرين، إلا أن التدرج الهرمي في أمريكا لا يمكن تجاهله ولا غض الطرف عنه، سواء كان هذا التراتب عرقياً، أم اقتصادياً، أم مزيجاً من هذا وذاك. وما نتيجة ذلك في النهاية إلا الطرد من العمل (مثل قشرة برتقالة تم أكلها على حد تعبير ميلر حرفياً).

 الفيلم الإيراني «البائع»

يحكي الفيلم قصة حياة زوج وزوجة يعملان في التمثيل المسرحي، ويشتركان معاً في عرض لمسرحية «وفاة بائع متجول» لآرثر ميلر، إلا أن العمل والنص المسرحي سيعمق الخلافات بينهما، ما جعل علاقتهما تنهار تحت ضغط الظروف الاجتماعية القاسية داخل إيران، فالزوج سيعمل على الانتقام من شخص تعدى مُصادفة على زوجته، بعد انتقالهما إلى شقة جديدة كانت تسكنها قبلهما امرأة سيئة السمعة، ما يدخلهما في دوامة من الأحداث الدرامية تتصاعد وتتأزم حتى النهاية. منزل على وشك الانهيار، وزجاج إحدى شرفاته تصيبه الشروخ، وعرض مسرحي ينتهي بموت بطله، هذا الذي طالما تغنى بأمجاد ماضيه، حيث يُلاحقه الفشل الآن في كل شيء، وقد مات من اليأس بعد أن تحقق من مأساته، وقبل أن يموت أمام الجميع. في هذه الأجواء تدور الأحداث.

الحلم الأمريكي والحلم الإيراني

أسئلة عديدة تبدو هنا، بداية من اختيار النص المسرحي الذي يقوم كل من بطلي الفيلم بتجسيده ـ هما نفسهما ويلي ولندا في المسرحية ـ وعلينا عقد المقارنة الدائمة الآن بين الحلم الأمريكي الزائف بتحقيق حياة متزنة ومُبهجة وإنسانية في النهاية، وحقيقة مآل هذه الحياة في حقيقتها. هذا الوعد المغرور يُقابله من ناحية أخرى الحلم الإيراني الآن، في ما يُصدّره لأفراده من امتلاك الحقيقة، ومحاولة صياغة العالم وفق رؤية السلطة الإيرانية وحلمها الوهمي. من هنا تتواتر التفاصيل لتكشف البناء الواهي، والموشك على السقوط، ومحاولة الجميع الفرار منه قبل أن يصبحوا كلهم أمواتاً، كحال بائع ميلر المتجوّل. فالمازق أخلاقي بالأساس قبل كل شيء.

الأسلوب ما بعد الحداثي

لم يعتمد فرهادي سرداً كلاسيكياً حيث البداية والوسط والنهاية الأرسطية، رغم أنه يتعامل مع نص كلاسيكي، لكنه فتت الحدث ـ هذا بداية ـ وجاءت مشاهد السيناريو متداخلة بين الحدث على خشبة المسرح واستكماله أو التنبؤ بما سيحدث من خلال أحداث الفيلم، كالمدرسة وشقة الزوجين الجديدة. وعقد حالة من التماثل بين موقف (البائع) العجوز في الفيلم وموقف (ويلي لومان) نفسه في النص المسرحي. من ناحية أخرى هناك مقارنة خفيّة ـ النسق المُضمر ـ فالممثل/المدرس (هذه المهن التي من المفترض أن يتحلى أصحابها بالأخلاق والوعي) ربما قد يكون فعلا مثلما فعل الرجل العجوز ـ تحرّش بامرأة ـ في مجتمع يدّعي الفضيلة، وهي سمة أخرى يكشف عنها الفيلم، فمنظومة القيم منهارة في الأساس، رغم المظهر الخارجي الذي يدّعي الرُقي والتديّن.
السمة الأخرى من سمات ما بعد الحداثة، هو تداخل الحالة نفسها للشخصيات ـ لا الأحداث ـ فقد اختلط الأمر كثيراً بين مشهد تمثيلي على خشبة المسرح، واستكماله في الحياة، لتصبح الحياة نفسها لعبة تمثيلية لا تنتمي لأصحابها، فهم في الأصل يمثلون في الواقع. هذا التماهي بين الخيالي والواقعي، والسخرية المُضمرة من سلوكيات المجتمع المحافظ تتجلى في صورة (فتاة الليل) الوحيدة صاحبة الخطاب الواثق والقوي والصادق، بخلاف جميع الشخصيات في الفيلم، رغم كونها الصورة المرفوضة والمُهمّشة أخلاقياً، بخلاف أصحاب الوعي والحِس الفني كباقي الشخصيات.

*كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي