الروائي السوري خليل النعيمي: أن تُبدِع هو أن تقول «لا»

2023-01-01

حاوره: أحمد عزيز الحسين

من الطبيعي أن نعثر في البلدان العربية، التي تفتقر إلى «التأصيل» على ما يؤكد أن الفوضى المنظمة والهدامة، ضربت أطنابها في مناحي حياتنا الثقافية كافةً، فأصابت الكِتابَ ومبدعِيه وصانعيه؛ وتركت تأثيراً كبيراً في المتلقي وآلية تذوقه للنص، كما كان لها دورٌ في آلية منح الجوائز للمبدعين من كتابه، وقد شاركت في إنتاج هذه الفوضى وتعميمها أطرافٌ متعددةٌ، منها السلطة، أو دورُ النشر، أو الصحافةُ، أو الكتّابُ أنفسهم، ما أنتج مشهداً ثقافياً عربياً مأزوماً.

وللبحث في حيثيات الأزمة الثقافية العربية، والكشف عن أسبابها، وآليات الخلاص منها، يجيب الروائي السوري خليل النعيمي الذي يمارس دورا مهما في صناعة وعي جمالي عربي، من خلال ما يكتبه من روايات متفردة ، ومن خلال ما ينشره من كتب ومقالات عن رحلاته، تحتفي بالمكان، وتتعالق مع ما أنتجه الآخَر من إبداع سعى فيه إلى توكيد شخصيته، وصناعة هويته بأشكال متعددة.

هنا نص الحوار:

ما مسؤولية الأنظمة العربية عن الترويج للكتاب الرديء، والدورية المتهافتة، اللذين أمسَيَا بوقاً لها، ومعبرَين عن رؤيتها للحياة والكون؟

في مسألة الإبداع ليس ثمة عذرٌ للمبدع.. المبدع هو الخالق لإبداعه.. وهو المسؤول الأول عن كل نقيصة فيه. تعلمتُ هذا من فن الجراحة، العمل الجراحي لا يحتمل نقل الخطأ من المنفذ إلى الإداري، الجراح مسؤول عن كل شيء بما فيه «موت الكائن» الذي يقع بين يديه إن حصل، لكن هذا لا يُلغِي المسؤولية الإدارية؛ لأننا نعيش في عالم ثنائي القطب، ليس سياسياً، حسب، وإنما إبداعي أيضاً. هناك إذن مسؤولية تكاد تكون أساسية «للسلطة العربية الواحدة» في عملية تتفِيه الإبداع، واستيعاب المبدِعين، ووضعهم تحت وصاية إرادتها الثقافية، لكن هذه الإرادة الثقافية الغاشمة، تماماً، مثل إرادة التسلط السياسي العربي، يجب أن يقاومها المبدعون. والمبدعون العرب يفعلون العكس: يخضعون أكثر فأكثر، «أن تبدِعَ هو أن تقولَ لا»! إذا أردنا أن نختطف مقولة دريدا العظيمة، وهو ما يُعِيدنا إلى أهمية الوعي الإبداعي العربي، وإشكالية علاقته بالسلطة التي «تُغذيه». ونحن نعرف أن التحرر الاقتصادي هو أساس كل تحرر. وانطلاقاً من هذه النقطة يمكننا أن نوسع المنظور لنرى هذه المشكلة الخطيرة من زاوية مختلفة أكثر إيلاماً.

ألا تتحمل دورُ النشر العربية بما تنشره من كتب المسؤولية عن هذا التردي، ولاسيما أن معظم ما تنشره ينأى بالمتلقي العربي عن الاهتمام بالجوهري والأساسي، ويحثه على الاهتمام بالنافل والعرضي، ويُبعِده عن امتلاك رؤية جمالية حصيفة تنأى به عن وعي واقعه، والخلاص مما هو فيه.

دور النشر تنشر ما يكتبه المبدعون، وهذا هو دورها. وهي، كما تعرف، مؤسسات تجارية بحتة مهما كان ادعاء أصحابها، أو القيمين عليها. ليس ذلك مأخذاً وحيداً عليها، فقط، فهناك بالتأكيد الكثير مما يمكن قوله. وأياً كانت الحال، فدور النشر شريك مباشر للسلطة الثقافية العربية، وهي تتحمل، مع سيدتها السلطة، مسؤولية أساسية في ابتذال الموقف الثقافي العربي المُعمم. لكن البحث عن سبب معقول للتهافت الثقافي الذي نراه اليوم، يقودنا، أولاً، إلى دائرة الفاعلين الأساسيين فيه: الكتّاب أنفسهم. بالنسبة إليّ، يظل المسؤول الأول هو الكاتب، ومن بعد، الآخرون. الخطوة الأولى، كما أتصور، في هذه «المتاهة الثقافية» هو التساؤل المستحق: لماذا يلجأ المبدعون إلى الانتهازية الثقافية الفجة؟ وهل لدى الكثيرين منهم القدرة على التمييز بين ما يجب أن يُكتَب لأنه يزيد القارئ وعياً، أو يحرضه على تغيير ذاته، مثلاً، وما لا ضرورة لكتابته؟ وبأي طريقة؟ والأهم من ذلك، كله: لماذا نكتب ما نكتبه؟ الكتابة في النهاية فعلٌ ذاتي محض. ومَن لا يحترم نفسه، لا يحترم كتابته. وليس باستطاعة أحد آخر، حتى ولا السلطة، أن تقوم به بدلاً عن الكاتب. دور النشر، وأكاد أقول حتى تلك التابعة مباشرة للسلطة، ليست مسؤولة عن «سقوطنا الإبداعي» إلا من منظور «هُروبي» مصطنَع، ولا مجدٍ. إدراك أهمية الكتابة، وبالخصوص في العالم العربي، هي التي ستنقذ الكاتب من التخاذل والاستيعاب، وليس أي شيء آخر. وفي النهاية، ليس هناك علاجٌ سحري للابتذال خارج وعي الكاتب.

في ضوء هذا التردي والتتفيه الذي يُحَاك بتقصد من بعض الأطراف العربية، كما تعلم، هل تجد أن نوعية النقد الصحافي الذي يهيمن على الصحافة الثقافية العربية، قادر على تزويد المتلقي العربي بالخبرة الجمالية التي تؤهله للحكم على ما يقرأ، أو يسمع، أو يتذوق؟

لا الصحافة، ولا نقدها، يستطيعان أن يغيرا من وضع القارئ العربي. خبرة القارئ تنبع من مجمل القراءات التي يقوم بها، ويستوعبها، أو يتفاعل معها، وليس من قراءات النقاد التي غالباً ما تكون سريعة، ودون موقف جذري من الواقع، حتى في أحسن أحوالها. القارئ العربي هو الوجه الآخر للكاتب العربي المستوعَب. وكل كاتب ينتج قراءه. في هذه الدائرة المغلقة قد نعثر على بصيص أمل في فهم عملية تردي القراءة قبل تردي الكتابة.

عطفاً على السؤال السابق، ما مدى موضوعية لجان التحكيم في مسابقات (البوكر) و(كتارا) و(مانديلا العالمية في الآداب) وغيرها، في دعم الكتاب والكاتب العربي، وهل تمتلك في رأيك المعايير الكافية للحكم على النص وتقييمه، أم أنها منحازة لطرف دون آخر؟

كل الجوائز منحازة، هذا ليس عيباً فيها، ولا يسبب عثرة في طريق الإبداع، عندما نَعيه؛ لأن المشكلة لا تكمن في الانحياز، وإنما في الاستراتيجية التي تنتهجها جوائز العالم العربي، اليوم، والتي يدعي بعضها العالمية كذباً. فليس فيها من العالمية إلا العملة التي تمنحها للفائزين. ولا يمكن إلصاق صفة العالمية على أي جائزة عربية، حتى لو اشترت لهماً اسماً أجنبياً. بعد انهيار الدول المركزية الأساسية في مجال الثقافة والإبداع، وهذا ليس حكم قيمة أبداً، ولا هو ضد أحد، حتى لو أوحى بذلك، المهم بعد انهيار: سوريا والعراق واليمن ولبنان وليبيا والسودان، وبشكل أخف مصر، انبثقت، فجأة، عشرات الجوائز السخية والثرية، لكنها بلا قاعدة ثقافية محلية متينة، وليس لها تاريخ حافل بالإنجازات الإبداعية التي يمكن أن تستند إليها، أو تستمد منها مقومات وجودها الأساسية. وهو ما يعني أن معظم الجوائز العربية لا تستند إلا على بحر من الدولارات، وقد قلنا من قبل: «منذ البدء نحن نعرف النهاية: سيلتهم الدولار الرواية». وهو قد التَهَم كل شيء تقريباً، لا الرواية وحدها. هذه الجوائز هي الشكل الأسمى من «السيطرة الفكرية بوسائل نقدية». خطورتها لا تكمن في اختياراتها، وإنما في توجيه دفة القراءة، وتعويم كُتب جوائزها، من أجل إنتاج قراء جدد لا يعرفون من التراث الثقافي العربي إلا ما «تصنعه» هذه الجوائز. فهي قد أصبحت، في الواقع، «معملاً نشيطاً لإنتاج الثقافة» حتى لو كانت في أغلبها هزيلة، وبلا بُعد تاريخي. وها نحن نشهد، الآن، بعد عقد واحد فقط من «فَورة» تلك الجوائز المشؤومة، كيف أن اللقاءات الثقافية لا يؤمها، ويكاد لا يُدعى إليها، إلا ممنوحو الجوائز «المرموقون».

ما السبيل في رأيك لتلافي هذه الفوضى الثقافية (المنظمَة) والتردي العربي الحاصل في سوق الكتاب، والدورية الثقافية، والنقد الصحافي، وآلية منح الجوائز إذن؟

السبيل الوحيد للخروج من مأزق الثقافة العربية الراهن، يتطلب وعياً جذرياً عند «أهل المهنة». فالثقافة، مثل غيرها من المهن، قد تصبح قيداً لمُمتهنها. وقد تُحوله إلى تابع للقوة المهيمنة على الإبداع، إن لم يغدُ عبداً لها. ولا تنسَ أن العالم العربي، كله، يعيش فترة شديدة الاضطراب. والرُؤى الإبداعية فيه غير واضحة بشكل كافٍ، وقد تجرنا إلى هاوية بلا حدود، إذا لم نتعلم من دروس التاريخ الكثيرة التي تحذر من «الاستيلاء» على ثقافة الناس وأدبهم.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي