المخرج الفرنسي جان لوك غودار: الفلسفة رفيقتنا السرية

2022-10-08

حوار / روبرت ماجيوري | ترجمة عبدالله الحيمر

تأتي النهاية في حلة الموت الرحيم للمخرج الفرنسي لوك غودار (1930-2022) الذي عاش الحياة كأنها فيلم طويل لا ينتهي. صنع فيها ذاكرة إنسانية موشومة بالبحث والمكاشفة، وبسينما تجمع كل الفنون وعلى رأسها الفلسفة.

جل موضوعات أفلامه ذات أبعاد فلسفية عميقة تطرح سؤالا ورؤية جديدة بالفكر السينمائي وبصناعة الأفلام. ممارسته النقدية مستندة إلى قراءاته الفلسفية، وعلاقته الوثيقة مع الفلاسفة والكتاب الفرنسيين. رحل تاركاً تراثا سينمائيا، أكثر من سبعين فيلماً، تعد من كلاسيكيات السينما، مثل «أن تعيشي حياتك» (1962) و»الازدراء» (1963) و»بييرو المجنون» (1965) و»هنا وهناك» (1976) و»أنقذْ ما استطعت إنقاذه: الحياة» (1980) ناهيك من سلسلة «تاريخ السينما» التي أنجزها عام 1998، عن تاريخ السينما وعلاقتها بالقرن العشرين.

هل تقرأ كتبا فلسفية؟

أنا حقا أحب الكتب، وأحب كتبا ذات حجم الجيب (الفرنسية) لأنه يمكنك وضعها في جيبك (في الواقع، هم الذين يضعونك في جيبك). لكنني لا أقرأ بطريقة جادة، فمن النادر أن أقرأ كتابا، حتى رواية، من البداية إلى النهاية. اليوم، أعدت قراءة بعضها، ببطء، والتي عالقة في ذاكرتي فقط، لكنني بالتأكيد قرأتها بشكل سيئ. مثل نهاية «منتصف الليل» للكاتب جوليان غرين، حيث لا يزال هناك حديث عن الانتحار: لدينا انطباع بأن الفتاة ترمي نفسها، لكن في الواقع هي الأرض التي ترتفع نحوها بسرعة مذهلة.. بصراحة أقولها لك، أنا غير قادر على قراءة كتب تعالج «إشكاليات» فلسفية، وأنا غير قادر كذلك على قراءة الفيلسوف هايدغر، إلا إذا كان الحديث عن شعر، وخصوصا للشاعر فريدرش هولدرلي. أحببت المسارات التي لا تؤدي إلى أي مكان، لكنها تمر عبر الصورة.

ومع ذلك أنت تقتبس الكثير من هايدغر؟

هذه أجزاء من الأفكار، من قبل كنت أضعها كعلامات أقوال، أما الآن فأضعها كحالات. في الأصل، كنت سأذهب إلى سراييفو، وكنت سأضع لقطة واحدة، وهايدغر عليها. ما هو موجود في فيلم «موسيقانا» وجدته عند الفيلسوف إيمانويل ليفيناس، في كتاب قديم اسمه «الزمن والآخر». إنها مجرد رؤوس أقلام في أسفل الصفحة. أنا حقا أحب الحواشي الطويلة جدا، سأبدأ بذلك. يقول إيمانويل ليفيناس، إن الموت ممكن من المستحيل، وليس المستحيل الممكن، كما قال مؤرخ الفلسفة والفيلسوف الفرنسي جون واهل عن هايدغر.. حاولت قراءة تأملات الفيلسوف إدموند هوسرل الديكارتية، لكنني لم أكمل قراءته. الفيلسوف جيل دولوز (1925 – 1995) عندما تستمع إليه، إنه أمر رائع للغاية، عندما أقرأ بعض نصوصه الأكثر صعوبة، يبدو الأمر وكأنني أقوم بالرياضيات العليا. يجب أن تسمى جميع كتب الفلسفة، مثل كتب الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد، بالفتات الفلسفي، حتى لا نشعر بالذنب لأننا قادرون على قراءتها فقط من خلال «بقايا الفتات» على وجه التحديد.

هل كان لديك أي علاقات مع بعض المفكرين المعاصرين، فوكو، دريدا، ليفي شتراوس؟

قليلا مع الفيلسوف الفرنسي فلاديمير يانكيلفيتش (1903-1985) مدافع كبير عن فكره الأخلاق المعاصرة، مثل هايدغر، خاصة الفيلسوف هنري برغسون، الذي احتقرناه منذ فترة طويلة. حضرت والدتي دروسه، في وقت دراستها الطبية، وأتذكر دائما عبارة تعلمتها عن ظهر قلب، على وجه التحديد لأن الأسلوب يساعد على تذكرها، وأنني وضعتها مرتين أو ثلاث مرات في أفلامي. إنه في نهاية المادة والذاكرة: «يستعير العقل من المادة التصورات التي يستمد منها غذاءه ويعيدها إليه في شكل حركة طبع عليها حريته». لكنني لا أفهم تماما كلمة «تصورات». قد يكون ليفيناس فيلسوفا جيدا، لكنه كاتب سيئ. سأظهر في فيلمي فقرات من كتابه «بيننا» (1991). أنا أصور جسرا، يقول الرجل «نحن بيننا» لذلك انتقلت من صورة إلى أخرى وقرأت نص ليفيناس. يبدو لي ليفيناس حاضرا في فيلم «موسيقانا « بطريقة مختلفة. تظهر لك الكثير من» الوجوه» إذا كنا نعني بذلك ما هو خاص بالفرد، طوله، لون بشرته، لكن فسيفساء «الوجوه» اليهودية، العربية، البوسنية، الهنود الحمر، إلخ، هي التي تنتهي بصنع «الوجه» وهذا يعني، وفقا ليفيناس، ما يحظر القتل. إنه اللاوعي للرسام أو المخرج، هو الذي يفعل هذا! الفيلسوف بلانشو يتحدث عن «غير مرئية للصورة». يقول: «الصورة هي السعادة، لكن بالقرب منها يبقى العدم». في الدين، تم فرض الصورة كنص للقانون، أو النص كصورة للقانون. لكن في الواقع لا يمكن رؤية الصورة، فهي تقريبية، كما هو الحال عند الفيلسوف الألماني والتر بنيامين، إنها بعيدة، مهما كانت قريبة. في السينما، هناك شكل الحقل مقابل الحقل: نعرض وجهين واحدا تلو الآخر لكن في الواقع نرى الوجه نفسه مرتين، لأن الحقل المضاد السينمائي يجب أن يتم من خلال النص، لإحضار عنصر ثالث يمكن أن أسميه الصورة الحقيقية أو النص الحقيقي، ما يجعل الصورة، أو الذي يجعل النص. يقول الفيلسوف الفرنسي ليون برونشفيك، الذي نصحتني والدتي بقراءته، في مكان ما: أحدهما في الآخر والآخر في واحد، وهؤلاء هم الأشخاص الثلاثة. إذا كان لدينا حوار مع بعضنا بعضا، وإذا أردنا التحدث عنك، يجب ألا نتراجع عني، لكن يجب علينا أولا تصويري من الخلف وعدم رؤيتك، ثم نقرر، وفقا لموضوع الفيلم، ما إذا كنا سنضع هذه الخطة أو تلك الأخرى.

تأخذ الثلاثية الكلاسيكية لتقسيم، الجحيم، المطهر، الجنة. لكن البقاء في العذاب هو الأطول، حيث تكون الأخلاق، يبدأ العمل البطيء لـ«المطهر»؟

لقد لاحظت أن الصحافيين يذهبون دائما إلى العالم السفلي، والسياح إلى الجنة! نادرا ما نذهب إلى المطهر. اليوم، نضع الشر على جانب واحد، والخير من جهة أخرى، هذا كل شيء! في السينما، هناك إنتاج وتوزيع و.. الاستغلال، بينما بالنسبة للكتاب نتحدث عن الكتابة والنشر والتوزيع. هذا بالنسبة لي استعارة لعالم ليس كبيرا بلا حدود ولا صغيرا بلا حدود، لكنه «متوسط بلا حدود». كانت السينما مسؤولة عن ذلك، ثم خيانة المسؤولين، والجمهور أيضا. في الولايات المتحدة، كانت الأفلام التافهة تسمى أفلام الاستغلال.الإنتاج، وهو التصوير، السيناريو، هو بالنسبة لي واحدة من أفضل اللحظات: نشعر، وهناك شيء أخلاقي، شيء يدعونا، كما يقول «نجم الراعي» أينما كان، لكننا لا نعرف حتى الآن… علينا التحقق بانتظام، والتفكير في الأمر، وتدوين بعض الملاحظات التي نسقطها بعد ذلك، والتي لا نشاهدها مطلقا. ثم هناك إطلاق النار، الذي هو بالنسبة لي، بالفعل جزء من النهاية. الإنتاج هو الجنة، والتوزيع هو المطهر: أخيرا يأتي الجحيم، وهو الاستغلال، المسمى على نحو مناسب! نجد الوظائف الثلاث التي درستها قليلا عند العالم الفرنسي في فقه اللغة المقارن جورج دوميزيل (1898 – 1986) الأنبياء، المحاربون والمزارعون، المزارعون الذين أصبحوا «الخدمات» «الجمهور العام».

ما هي الوحدة بالنسبة لك؟

ما زلنا جميعا هنا، جعلتني آن ماري ميفيل كاتبة السيناريو والمخرجة السويسرية أقرأ نصا بقلم حنة آرنت (1906 – 1975) قالت إن الوحدة ليست عزلة. في العزلة، نحن لسنا وحدنا مع أنفسنا. نحن دائما اثنان في واحد، ونصبح واحدا… فقط بفضل الآخرين، وعندما نجد أنفسنا معهم. أحب أن أكون على طاولة نضحك فيها ونأكل، لكنني أفضل أن أكون في نهاية الطاولة وألا أجبر على المشاركة. في الوقت نفسه، أريد أن أكون هناك والاستمتاع بها… عزل السجين هو شيء آخر تماما.

هل عانيت في أي وقت مضى شكلا من أشكال العزلة؟

نعم، مرة واحدة. بعد محاولة انتحار، التي كنت قد قمت فيها بدور دجال إلى حد ما، حتى ينتبه الناس لي. كان بعد ثورة «68» على ما أعتقد. كنت في منزل أحد الأصدقاء، لكن والدي، الذي كان طبيبا، وضعني بالفعل في عيادة للأمراض النفسية في الماضي، وأخذني هذا الصديق إلى مدينة جارش. هناك، الذي منعني على الأرجح من القيام بإيماءات مؤسفة، وضعوني في سترة مقيدة». قلت لنفسي: «من الأفضل أن تبقى هادئا، وإلا فلن يسمحوا لك بالرحيل أبدا. أثّر فيّ كتاب عندما كنت صغيرا، «القدم الحديدية» للكاتب الأمريكي جاك لندن. هي قصة «داريل ستاندنغ» السجين المحكوم عليهم بالإعدام، الذي ينتظر في سجن ولاية كاليفورنيا في سان كوينتين. وضعوه في سترة مقيدة، ويستخدمها كمهرب، مما يدفع حارسه إلى الجنون: فكلما زاد عدد الأيام التي يقدمون له سترة مقيدة، كان أكثر سعادة! يصنع عالما لنفسه ويهرب من خلال الفكر، فهو في باريس تحت حكم لويس الثالث عشر، ومرة في روما كالقاضي بيلاطس البنطي… لقد قمت مؤخرا بإعادة قراءة كتاب آخر من تأليف جاك لندن، «مايكل كلب سيرك». لقد أحببته حقا في ذلك الوقت، ربما لأنني رأيت نفسي أيضا ككلب سيرك، مع رغبة في الأمومة. الكلب يجد نفسه وحيدا على الشاطئ، وهناك نادل مقهى قديم الذي يدعوه لمرافقته، وأخذه بعيدا، والذي يصبح سيده، رئيسه، نبيه. وكان اسم هذا النادل «داغ دوغتري» وكان قبل بضعة أسابيع فقط، عندما سمعت كلمة «الآخرين». كنت بحاجة إلى «الآخرين» ولم تكن حتى عائلتي من طينة هؤلاء الآخرين.

لكن الرسام، الكاتب، يلتقي دائما «بالآخرين» من خلال أعمالهم، فقط لأنهم يغذون حساسية الآخرين وفكرهم وخيالهم.

من بين الفنانين الذين ينتحرون، أعتقد أن الرسامين هم رقم واحد، والكتاب هم التصنيف الثاني. في السينما، لا يمكننا الانتحار. هناك استثناءات، لكن القليل منها، مثل المخرج جان اوستاش في فرنسا. كما قال المخرج روبير بريسون، بمجرد دخولك الفيلم، لا يمكنك تركه. في فرنسا، غادر واحد منهم فقط، المخرج ماوريس ريجامي الذي صنع أفلاما من الفئة الرابعة وأصبح ممثلا للنبيذ والمشروبات الكحولية في منطقة «ميدي» جنوب فرنسا. في الكتابة، هناك لحظة نترك فيها العزلة ونحن في عزلة. قال شخص مثل الأديب الأمريكي رايموند تشاندلر: «منذ اللحظة التي أكون فيها على المسار الصحيح، كل ما أفعله قراءة رواية، إشعال سيجارة، طهي بيضة، والتجوال، وكل شيء إذن هو نوع من العزلة وهي حالة صعبة للغاية». بسبب هذا، يمكننا الانتحار، الرسام يمكنه فعل ذلك. في السينما، لا يمكننا، لأن العمل السينمائي عمل جماعي، يتم بشكل سيئ، بشكل أو بآخر، وأسوأ بكثير اليوم، حتى بين الأمريكيين، لكن القيام بذلك يتطلب اثنين على الأقل، ثم نأخذ طاقما سينمائيا من المتعاونين والمساعدين والموظفين، وهذا يخلق صورة مصغرة. نرى الناس يعيشون معا، هناك رجال ونساء ومال وقوة وكل شيء. لهذا السبب يمكن أن تكون هناك أحداث لم تحدث بعد، وهذه علامات، إذا كنت تعرف كيف تراها: ترى مثل هذا الفيلم وأنت تعلم أنه في غضون ستة أشهر ستكون هناك ثورة مايو/أيار «68» أو هذا أو ذاك.

هل كان لديك إغراء للكتابة؟

نعم، مثل أي شخص آخر، لكنني لم أكن أعرف كيف أستمر – أنا دائما معجب بالجمل الأولى التي كتبها دوستويفسكي وفلوبير، لكنهم يعرفون كيف يستمرون! جربت الترجمات. قضيت عاما في أمريكا الجنوبية، أحببت رواية «حديقة للموت» لماريا بولينا ميديروس (1929–1983) من أوروغواي، وترجمتها وأرسلتها إلى أراغون… قالت لي الكاتبة مارغريت دوراس، عندما كنا معا، وكنا نحاول وضع أكبر عدد ممكن من الكلمات في صورة «إنك ملعون» يجب أن يكون ذلك بسبب الكتب، أو ما هو موجود في الكتب. الكتب، بدأت بسماعها. كان لدى والدي قارب صغير يسمى «الجسر الواصل». كان صديقا للشاعر بول فاليري، وتلقيت دروسا في اللاتينية من طرف بول فاليري، حتى إنني فكرت للحظة في صنع فيلم عنه، عن السيد «تيست». خلال الحرب، كان هناك متعاونون في عائلتي، على الأقل في الروح، لأنه لم يفعل أحد شيئا سيئا، ذهبنا إلى منزل جدي عبر البحيرة وقرأنا بصوت عالٍ. أتذكر سماع «ممرات الجحيم « للكاتب دومينيك بونشاردييه (1917-1986) بطل المقاومة.

أنت لا تحب التعريفات، لكن ما هي الفلسفة بالنسبة لك؟

كتب المفكر موريس بلانشو: «ستكون الفلسفة رفيقنا، ليلاً ونهارا، حتى لو فقدت اسمها، حتى لو كانت غائبة، ستظل صديقة سرية»… هذه هي الفلسفة، إنها صديقة، والرواية صديق.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي